مخاطر عكسية: ‹ جريدة الوطن

مخاطر عكسية:
هل يشكل هجوم إسرائيل على إيران نقطة تحوّل للنووي الإيراني؟
شَهِدَت البيئة الإقليمية، لا سيما منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، تحوّلاً نوعياً في طبيعة المواجهة بين إسرائيل وإيران. فبعد عقودٍ من “حرب الظل” التي اتسمت بالعمليات السيبرانية والاستخباراتية الدقيقة، كما تجلى بوضوح في الهجوم بفيروس «ستكسنت» الذي عطّل منظومات الطرد المركزي الإيرانية في نطنز عام 2010، وانتقالاً إلى نمط “الاستهداف عن بُعد” في أراضي دول ثالثة، تصاعَدَتْ المواجهة لتأخذ طابعاً عسكرياً مباشراً وعلنياً، وكذا هجمات متبادلة بارزة في عام 2024، وصولاً إلى التصعيد الأخير في 13 يونيو 2025. هذا التصعيد غير المسبوق، الذي يعكس إدراكاً إسرائيلياً متزايداً بأن “خطر التخصيب العالي” قد تجاوز حدود الاحتواء التقليدي؛ دفع تل أبيب للانتقال إلى سياسة “كسر العتبة” بوسائل عسكرية علنية. فهل يُمثِّل هذا التحوّل الجذري، وما صاحبه من هجمات متبادلة، نقطة تحوّل حاسمة نحو القضاء على البرنامج النووي الإيراني، أم أنه قد يدفع طهران إلى تسريع خطواتها نحو العتبة النووية، وربما ما بعدها؟
حسابات استراتيجية:
ينطلق المنطق الاستراتيجي الإسرائيلي من عقيدة أمنية راسخة تُعرف بـ”مبدأ بيغن”، الذي تبلور بعد تدمير المفاعل النووي العراقي “تموز” (أوزيراك) عام 1981. ويقضي هذا المبدأ بأن إسرائيل لن تسمح لأي دولة معادية في الإقليم بامتلاك أسلحة دمار شامل، باعتبارها تهديداً وجودياً يتطلب استخدام القوة الاستباقية لمنعه. ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا المبدأ أحد أعمدة التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه المشروع النووي الإيراني.
في هذا السياق، استندت إسرائيل في هجماتها فجر يوم 13 يونيو 2025 إلى تقدير دقيق لـ”نافذة الفرص” التي سمحت بتفعيل سياسة “كسر العتبة النووية” عبر استخدام القوة العسكرية العلنية، وذلك قبل المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية التي كان من المقرر عقدها يوم 15 يونيو 2025 بسلطنة عُمان. ففي منطق الدولة الذي لا يعترف إلا بموازين القوة، رأت إسرائيل أن الضربة العسكرية، لا التفاهمات الدبلوماسية؛ هي الضامن الوحيد لتعطيل المشروع النووي الإيراني.
ومن هذا المنطلق، لم تكن الهجمات مجرد رد فعل أمني تقني، بل فعلاً سيادياً محسوباً لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية، وفرض منطق الردع الصلب على طاولة التفاوض. فلقد رأت إسرائيل أن استمرار المباحثات دون تفكيك فعلي – إرادي أو قسري– للبنية النووية الإيرانية، قد يُفضي إلى تثبيت واقعٍ خطر يُقارب شرعنة الخطر النووي الإيراني. فجاءت الضربات لتقلب المعادلة، وتُعيد تعريف ما هو ممكن سياسياً واستراتيجياً، ليس عبر تدمير منشآت مادية فحسب، بل عبر ضرب المسار التفاوضي ذاته. ويمكن تحليل هذه الحسابات الاستراتيجية كما يلي:
1- تهيئة المسرح العسكري: عملت إسرائيل على تهيئة بيئة عملياتية مناسبة للهجوم عبر ضربات تمهيدية، استهدفت نقاط الضعف في البنية التحتية الإيرانية. وقد أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن طائرات F-35I Adir الإسرائيلية، المعدّلة بتعاون أمريكي سري لزيادة مداها وقدرتها على اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية، قد استُخدمت بكفاءة عالية. مَكّن هذا إسرائيل من تنفيذ ضربات دقيقة على منشآت نووية حساسة مثل نطنز وفوردو، إضافةً إلى منشآت في أصفهان، ومرافق حيوية مثل أنظمة الدفاع الجوي وقواعد الصواريخ.
كما شملت الهجمات استهدافاً نوعياً لعناصر بشرية وعلمية منخرطة في المشروع النووي، من خلال عمليات استخباراتية مُركبة ضد قيادات من الحرس الثوري الإيراني وعلماء نوويين بارزين. وقد ربطت وكالة رويترز بعض الضربات بمواقع استراتيجية خارج القطاع النووي الضيق، كالهجوم على حقل “South Pars” للغاز، في إشارة إلى نية إسرائيل شلّ قدرات إيران الاستراتيجية متعددة الأبعاد، بما يتجاوز النطاق النووي الضيق.
2- إضعاف الأذرع الإقليمية الإيرانية: في موازاة الهجوم الإسرائيلي على إيران، عكفت إسرائيل بلا كلل على تقويض قدرات أذرع إيران في الإقليم خلال الأشهر الماضية. وكان الهدف هو تقليص القدرة الردعية لإيران عبر إضعاف أدواتها، والحد من قدرتها على تنفيذ ردّ مستقبلي فعال أو منسق. وقد أظهرت الضربات لتلك الأذرع وجاهتها، لا سيما على مستوى التهديد الصاروخي أو الطائرات المسيّرة؛ وهو ما يمنح إسرائيل الآن مساحة أكبر للمناورة والاشتباك المباشر دون خوف من هجمات واسعة النطاق قادمة من حدودها مع لبنان أو سوريا.
3- ضمانات دولية ضمنية: حظيت إسرائيل بدعم أمريكي غير مباشر، وتصعيد دولي للضغط على طهران؛ مما يمنحها هامشاً للمناورة. فتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي حذرت إيران من “حرب هائلة” إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق نووي، وتصعيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية لهجتها ضد إيران، كلها مؤشرات على وجود دعم أمريكي غير مباشر يهدف إلى زيادة الضغط على طهران.
4- دوافع مُركبة بين اعتبارات البقاء السياسي ومتطلبات الأمن القومي: لا يمكن إغفال البُعد الداخلي في توقيت الهجوم الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية. فقد جاءت الضربة في لحظة سياسية حساسة، تزامنت مع أزمة مُركبة داخل إسرائيل؛ اتسمت بتهديدات جدّية لاستمرارية حكومة نتنياهو. فعلى الصعيد السياسي، كانت البلاد على أعتاب حلّ الكنيست، بعد تصويت تمهيدي خطر جاء في ظل خلافات حادة مع أحزاب “الحريديم” حول قانون التجنيد الإلزامي.
وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سعى لتأجيل التصويت النهائي على حلّ الكنيست، وكان في حاجة ماسة إلى “حدث أمني كبير” يُعيد توجيه الانتباه نحو “تهديد خارجي وجودي”؛ بما يضمن إعادة اصطفاف القوى الداخلية وتحصين صورته كزعيم أمني لا غنى عنه. ومن هنا، شكّل الهجوم على إيران فرصة سانحة لتوحيد الجبهة الداخلية، وتهميش الصراعات السياسية، في لحظة فارقة تُهدّد مستقبله السياسي.
في المقابل، لا يُمكن اختزال الهجوم في اعتبارات سياسية ظرفية فقط؛ إذ إن للدوافع الأمنية وزناً استراتيجياً حقيقياً، يتمثل في إدراك الدولة العبرية أن استمرار البرنامج النووي الإيراني دون تفكيك أو تعطيل حاسم، سيقود إلى تغيير جذري في ميزان الردع الإقليمي؛ لذا يُمكن القول إن قرار الضربة جاء نتاج تقاطع معقّد بين منطق البقاء السياسي ومنطق الأمن القومي.
عوائق استراتيجية:
على الرغم من النجاح التكتيكي الظاهري الذي حققته إسرائيل في ضربتها فجر 13 يونيو؛ فإن تحقيق الهدف الاستراتيجي الأشمل من هذه الضربة يواجه عقبات جسيمة ومتعددة الأبعاد؛ إذ إن تقييم مدى فعالية هذه الضربة لا يقتصر – كما يوضح ريتشارد نيفيو، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي– على حجم الأضرار المادية، بل يرتكز بالأساس إلى مدى قدرتها على التأثير في “الإرادة السياسية” لطهران للاستمرار في برنامجها النووي. ويمكن تصنيف هذه العوائق ضمن أربعة مستويات رئيسية:
1- معضلة التحصين والمعرفة: تُعد فكرة “الضربة القاضية” للبرنامج النووي الإيراني ضرباً من المبالغة، بالنظر إلى العقبات المادية والتقنية العميقة التي تحول دون تحققها:
أ– التحصين والمخزون: حرصت إيران على بناء منشآتها الأكثر حساسية – كمنشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم– في عمق الجبال وتحت طبقات كثيفة من الخرسانة المسلحة؛ مما يجعلها في منأى عن معظم القنابل التقليدية. وحتى الآن، لا دليل دامغ على أن الدفاعات المحيطة بهذه المنشآت قد تم اختراقها أو أن أجهزة الطرد المركزي قد تعرضت للتدمير الشامل. الأخطر من ذلك هو مصير مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، والذي إن نجا، يمكن نقله بسهولة إلى موقع سري وإعادة تشغيل البرنامج في غضون أسابيع؛ مما يُفرغ الضربة من مضمونها الاستراتيجي.
ب– المعرفة والخبرة البشرية: لا يمكن للضربات الجوية، مهما بلغت دقتها، أن تمحو الذاكرة المعرفية والخبرة التقنية المتراكمة لدى آلاف العلماء والفنيين الإيرانيين، الذين يشكلون العمود الفقري للبرنامج. وعلى الرغم من اغتيال بعض القيادات؛ فإن بقاء “كادر فني متخصص ومدرب” كفيل بضمان استمرارية المشروع. يُضاف إلى ذلك وجود ثغرات استخباراتية وغموض حول مدى تطور قدرة إيران على تحويل اليورانيوم إلى معدن أو تصنيع رأس نووي، فضلاً عن احتمالية وجود مواقع سرية غير خاضعة للتفتيش الدولي؛ مما يعزز هشاشة فرضية التدمير الكامل للبرنامج.
2- تداعيات “اليوم التالي”: الخطر الحقيقي لا يكمن في الضربة ذاتها، بل فيما يليها من تداعيات قد تقود إلى تصعيد شامل. فالرد الإيراني من خلال عملية “الوعد الصادق 3” دلّ على قدرة طهران على ضرب العمق الإسرائيلي بواسطة صواريخ وطائرات مسيرة. وإذا انزلقت الأمور إلى مواجهة مفتوحة، فإن إسرائيل ستواجه حرب استنزاف طويلة ومرهقة، مع طرف يمتلك عمقاً جغرافياً وبشرياً واستراتيجياً أكبر، وقدرة أعلى على تحمّل الخسائر. وهو ما يهدد بتآكل الاستقرار الداخلي الإسرائيلي على المدى المتوسط والطويل، فضلاً عن ارتفاع التكلفة الاقتصادية والأمنية للصراع.
3- معضلة الإرادة السياسية: المتغير الأكثر حسماً هو التأثير النفسي والسياسي للضربة في النظام الإيراني. وهناك سيناريوهان متقابلان:
الأول، أن تُحدث الضربة “هزة استراتيجية” تدفع طهران نحو التهدئة والانخراط في تسوية دبلوماسية تجنبها مزيداً من الخسائر.
الثاني – وهو الأقرب إلى تصور المراقبين– أن تكون الضربة مُحفزاً عكسياً يدفع إيران إلى تسريع خطواتها النووية، تحت قناعة متزايدة بأن السلاح النووي هو الضمانة الوحيدة لبقاء النظام. وفي هذا السياق، قد تسعى طهران إلى تأليب الرأي العام الدولي ضد إسرائيل، عبر تصويرها كدولة خارجة عن القانون الدولي؛ الأمر الذي يفاقم حدة التوترات بدلاً من احتوائها.
4- المخاطر الإقليمية والدولية: اندلاع حرب شاملة بين إيران وإسرائيل كفيل بإشعال المنطقة بأسرها، وبخاصة إذا ما أقدمت طهران على إغلاق مضيق هرمز. ذلك أن هذا المضيق لا يُمثِّل مجرد ممر مائي، بل هو شريان نفطي عالمي يمر عبره يومياً ما يتراوح بين 18 إلى 20 مليون برميل؛ أي ما يُقارب خُمس الإمدادات العالمية؛ ومن ثم فإن أي اضطراب في حركته ستكون له تداعيات استراتيجية تتجاوز الإقليم، لتطال بنية الاقتصاد العالمي، وخرائط النفوذ بين القوى الكبرى.
وفي حال تحقّق هذا السيناريو، قد تقفز أسعار النفط – وفق تقديرات فاينانشال تايمز– إلى حدود 150 دولاراً للبرميل؛ ما سيُحدِث صدمة في الأسواق العالمية، تمتد آثارها من الدول الصناعية الكبرى إلى المستهلك الأمريكي العادي؛ وهو ما يُحرج سياسياً التيارات التي بَنَتْ برامجها الاقتصادية على فرضية استمرار أسعار النفط عند مستويات منخفضة، وعلى رأسها إدارة دونالد ترامب، التي تتبنى سقفاً عند 50 دولاراً للبرميل؛ لتحفيز النمو المحلي وخفض التكاليف على المواطنين.
ولا تقف التداعيات عند الجانب الطاقوي، بل تشمل ارتفاع تكاليف التأمين على السفن، وإعادة هيكلة مسارات النقل البحري نحو أسواق آسيوية تعتمد بشكل رئيسي على نفط الخليج، وفي مقدمتها الصين. ومن المتوقع أن تتحرك بكين بفاعلية سياسية واقتصادية لإجهاض أي محاولة لإغلاق المضيق، حمايةً لمصالحها الاستراتيجية، وهو ما سيؤدي – في حال حدوثه– إلى تغيير موازين التأثير في الخليج، وإضعاف المشروع الأمريكي الساعي إلى كبح التمدد الصيني في المنطقة.
أما على صعيد الأمن والسياسة، فإن تصاعُد التوتر قد يجبر واشنطن على تقديم دعم عسكري ومالي أكبر لإسرائيل، في تناقض صارخ مع “البراغماتية التجارية” التي تتميز بها سياسة ترامب، القائمة على ربط الالتزامات الدولية بالربح والخسارة لا بالمبادئ. وهذا الانحراف عن العقيدة الاقتصادية للسياسة الخارجية الأمريكية السابقة سيشكل عبئاً إضافياً على الميزانية الفدرالية، ويقوِّض مساعي تقليص الانخراط العسكري في الخارج.
وهناك شروط أمريكية للانضمام للحملة، وهي تتعلق بالأساس بإقدام إيران على ضرب القواعد العسكرية الأمريكية أو اغلاق مضيق هرمز، وهو ما لم تقدم عليه حتى الآن؛ لأنها تدرك أنه خيار صفري، وهي لا تريد استدعاء واشنطن هجومياً حتى لو أنها تدافع عن إسرائيل.
ختاماً، لا تبدو الضربة الإسرائيلية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في 13 يونيو 2025، على ما أثارته من صدمة عسكرية وسياسية في الإقليم، مرشّحة لأن تُشكّل نقطة تحوّل استراتيجية حاسمة في مسار البرنامج النووي الإيراني. فنجاح العملية من الناحية التكتيكية لا يُخفي حقيقة أن هذا البرنامج قد بلغ من التشعّب المؤسسي والتداخل السيادي؛ ما يجعل من الصعب تصفيته أو تعطيله عبر عمل عسكري منفرد، خصوصاً في ظل تعثُّر المسارات الدبلوماسية وتآكل قواعد الردع التقليدي. بل لعل المفارقة تكمن في أن الضربة ذاتها، بما حملته من رسالة صريحة باستحالة التعويل على ضمانات دولية، قد تُفضي إلى نتائج عكسية تماماً، تدفع طهران إلى تسريع تحوّلها نحو العتبة النووية تحت غطاء سيادي داخلي متماسك، ومنطق ردع جديد يرى في السلاح النووي الضمانة الوحيدة للحؤول دون تكرار سيناريو الهجوم؛ وهو ما يُنذر بانزلاق الإقليم إلى نمط من الردع غير المستقر، تتخلله اختلالات وانفجارات دورية لا تُحاصر داخل حدود الصراع الإيراني الإسرائيلي، بل قد تمتدّ لتقوّض معادلات الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء.