اخبار الامارات

خيارات إيران بعد تعليق تعاونها مع وكالة الطاقة الذرية ‹ جريدة الوطن

 

في تصعيد غير مستبعد عقب الضربة التي وجهتها الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية، أقرّ البرلمان الإيراني، في 25 يونيو 2025، مشروع قانون يقضي بتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واصفاً هذه الضربة بـ”انتهاك السيادة الوطنية وسلامة الأراضي الإيرانية” من قِبل إسرائيل والولايات المتحدة؛ معتبراً أن الحكومة الإيرانية باتت “ملزمة بتعليق جميع أشكال التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إطار معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية واتفاقيات الضمانات ذات الصلة، وذلك حتى يتم تلبية شروط من بينها تأمين سلامة المنشآت النووية والعلماء الإيرانيين”.

ويهدف القانون الذي صادق عليه الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في 2 يوليو الجاري، وأدخله بموجب هذا التصديق حيز التنفيذ، إلى “ضمان الدعم الكامل للحقوق الجوهرية لإيران”، بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، لا سيّما تخصيب اليورانيوم. كما يمنع هذا القانون إجراء أي تفتيش أو تركيب كاميرات أو إرسال تقارير إلى الوكالة الدولية إلا بعد موافقة مسبقة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، على أن يستمر هذا التعليق سارياً حتى تُضمن سلامة المنشآت والسيادة الوطنية.

وفتح هذا القرار الباب أمام تكهنات عدة بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني، وإمكانية تغيير طهران استراتيجيتها النووية، والتحول إلى نهج “الغموض النووي”، وكذلك المسارات التي تحكم مستقبل التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.

قرار التعليق:

آثار آخر تقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مايو الماضي، بشأن التحقق والرصد للبرنامج النووي الإيراني؛ انتقادات شديدة لدى طهران؛ حيث أكد التقرير أن قدرة الوكالة على الرصد والتحقق من البرنامج النووي الإيراني قد تأثرت بشكل “خطِر” نتيجة توقف إيران عن تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وأن خبراء الوكالة غير قادرين على تحقيق استمرارية المعرفة بشأن إنتاج وتخزين أجهزة الطرد المركزي، ومعلومات أخرى مرتبطة بتفاصيل البرنامج النووي الإيراني؛ بسبب انقطاع مفتشيها عن مواصلة عمليات المراقبة على مدى أربع سنوات.

ورأت إيران أن هذا التقرير يُمثل “تصعيداً مُسيساً” من جانب الوكالة الدولية، واعتبرته أداة لتبرير هجمات إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية؛ إذ وصف وزير الخارجية، عباس عراقجي، تقرير الوكالة بأنه “منحاز وذو نيات خبيثة”؛ منتقداً تقاعس الوكالة عن إدانة الاعتداءات التي استهدفت منشآت بلاده النووية. كما اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، أن التقرير كان إحدى ذرائع الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، بل ذهب مسؤولون إيرانيون إلى أبعد من ذلك، عندما صرح المسؤول القضائي، علي مظفري، بأن مدير عام الوكالة الدولية، رافائيل غروسي، يجب أن يُحاسب على ما وصفه بـ”الإعداد للجريمة” ضد إيران، بحسب ما نشرته “وكالة تسنيم” الإيرانية.

وعلى الرغم من تأكيد تصريحات المسؤولين الإيرانيين أن قرار تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يأتي رداً على تقريرها الأخير؛ لا يمكن التغافل عن أن ثمة دافعاً آخر لاتخاذ هذا القرار يتمثل في الغارات الجوية الأمريكية والإسرائيلية على منشآت إيران النووية، وتحديداً فوردو ونطنز وأصفهان؛ حيث يرى النظام الإيراني أن هذه الهجمات تُعد دافعاً لفقدان الثقة الكامل في الوكالة.

الخطوة التالية:

يُمثل قرار إيران تعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تحولاً مهماً في استراتيجيتها النووية وربما دخولها في مرحلة “الغموض النووي”، في ظل غياب آليات الرقابة، ومغادرة مفتشي الوكالة لإيران بالفعل بعد تصديق الرئيس بزشكيان على القرار ودخوله حيز التنفيذ. كما أن القرار قد يفتح الباب أمام تصعيد أكبر، يتمثل في احتمال انسحاب طهران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وهو سيناريو لم يحدث منذ انسحاب كوريا الشمالية من المعاهدة عام 2003، لا سيّما في ظل تهديد بعض المسؤولين الإيرانيين باتخاذ هذه الخطوة، وكذلك السرعة التي خرج بها القانون من البرلمان الإيراني بعد تمريره بصورة عاجلة؛ وذلك استناداً إلى المادة 60 من اتفاقية فيينا لعام 1969، والتي تجيز تعليق الالتزامات التعاقدية في حال “الإخلال الجوهري” من قِبل الطرف الآخر.

بيد أن ملابسات اتخاذ القرار تشير إلى تأني إيران، مع الإصرار في الوقت نفسه على امتلاك أوراق جديدة للمساومة، وحفظ ماء الوجه بعد تعرضها لهجمات موجعة؛ ما يعني أن النظام الإيراني قد اختار التصعيد التدريجي، لا سيّما أن تصديق الرئيس بزشكيان على القرار قد جاء عقب أسبوع من موافقة البرلمان الإيراني عليه؛ أي إن هذا التصديق ربما جاء بعد تأنٍّ وتفكير في الخطوات المقبلة.

وفي هذا السياق، فإن قرار تعليق التعاون مع الوكالة الدولية يأتي على نفس مسار قانون “الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات الأمريكية” الذي سبق أن أقره البرلمان الإيراني في ديسمبر 2020، والذي ألزم الحكومة الإيرانية حينها برفع تخصيب اليورانيوم حتى نسبة 20%، وإعادة العمل بمفاعل أراك للماء الثقيل، وتركيب ألف جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم في كل من منشأتي نطنز ومحطة فوردو في غضون ثلاثة أشهر من التصديق على القرار؛ وذلك بهدف الضغط على واشنطن لإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران.

وتجدر الإشارة إلى أن “قانون الاجراءات الاستراتيجية” جاء عقب أيام من اغتيال رئيس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية، محسن فخري زادة، في نوفمبر 2020، وبعد عامين من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي المُوقع عام 2015، وإعادة فرض العقوبات على إيران؛ ما يعني أن المحرك الأساسي وراء التصديق على هذا القانون حينها ربما كان استشعار طهران الخطر على برنامجها النووي من خلال استهداف كوادره، وليس انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في ولايته الأولى، من الاتفاق النووي، وهو نفس الدافع الحالي لتصعيد موقف إيران، بعد استهداف عشرات العلماء النوويين والقادة العسكريين خلال الهجوم الإسرائيلي عليها.

كما يعزز هذا الاحتمال أيضاً أنه بالرغم من قرار تعليق تعاون إيران مع الوكالة الدولية، وحسب تصريحات وزير الخارجية، عراقجي؛ ستلتزم طهران بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، واتفاقية الضمانات الخاصة بها، فيما سيتم توجيه تعاون إيران مع الوكالة عبر المجلس الأعلى للأمن القومي لأسباب اعتبرها عراقجي تتعلق بالسلامة والأمن.

مساران مُحتملان:

تتسم هذه المرحلة من عمر الملف النووي الإيراني بعدم اليقين، والغموض الذي تفرضه التصريحات المتضاربة من الأطراف المختلفة؛ حيث تشير التصريحات الأمريكية إلى تدمير كلي للمنشآت النووية الإيرانية، في حين تكتفي طهران بالإشارة إلى تعرض هذه المنشآت لدمار جزئي، وأن مخزونها من اليورانيوم المخصب ما زال بحوزتها، وأن القدرات النووية الإيرانية هي في الأصل قدرات محلية لا يمكن تدميرها، في الوقت الذي أشار فيه المدير العام للوكالة، غروسي، في مقابلة مع شبكة (CBS) الأمريكية، إلى أن إيران ما زالت قادرة على مواصلة نشاطها النووي خلال أشهر معدودة.

وربما ترى إيران أن هذا الغموض في صالحها، وأنه يضيف لرصيدها ويدفع الأطراف الأخرى إلى السير قدماً في اتجاه التفاوض، وعدم اللجوء إلى التصعيد العسكري مرة أخرى، على الرغم من أن خيار التصعيد لا يمكن استبعاده نهائياً في ظل هشاشه اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل برعاية أمريكية.

وفي هذا السياق، يبرز مساران أساسيان يمكن أن تسير وفقهما إيران لإدارة ملفها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكذلك التفاوض مع الولايات المتحدة، انطلاقاً من فرضية مرجحة مفادها أن طهران لن تُعول في هذه المرحلة على الدول الأوروبية، وإنما ستسعى لإيجاد مخرج سياسي مع واشنطن أولاً، ليكون هذا المخرج هو بوابة الاتفاق مع الغرب؛ ومن ثم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك كالتالي:

1- مسار التفاوض: يعتمد هذا المسار على مدى رشادة القرار الإيراني في تحديد التوقيت المناسب للدخول في مفاوضات باتت تدعوها لها الأطراف كافة. ومع التسليم بأن إيران في حاجة مُلحة للتفاوض والتوصل إلى اتفاق مُرضٍ لها للخروج من أزمة الملف النووي وعقوباته التي أثقلت كاهل المجتمع الإيراني؛ فإنه في الوقت نفسه من غير المُرجح أن تسارع طهران إلى طاولة المفاوضات، لا سيّما بعد تعرض أراضيها للمرة الأولى لعمل عسكري أمريكي إسرائيلي.

وحالياً، يرى النظام الإيراني أنه يستطيع، من خلال دخوله في مرحلة “الغموض النووي”، كسب بعض الوقت لتعظيم أوراق تفاوضه مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مستثمراً في ذلك حالة الحشد الداخلي الرافض للدخول في مفاوضات سريعة مع الولايات المتحدة؛ وهو ما عبّرت عنه وزارة الخارجية الإيرانية بإشارتها إلى أنه من غير الواقعي أن تتوقع الوكالة الدولية عودة التعاون الطبيعي بعد وقت قصير من الضربات الأمريكية والإسرائيلية.

ويبدو حتى الآن أن ثمة تفهماً أمريكياً لمأزق تحرك إيران الفوري تجاه مسار المفاوضات، ويظهر ذلك من خلال حديث ترامب عن إمكانية التفاوض مع الإيرانيين بشكل أفضل في المرحلة المقبلة. بيد أن المماطلة الإيرانية في هذا الإطار إذا ما خرجت عن الحسابات العقلانية؛ فإنها ستؤدي على الأرجح إلى تسريع الخطوات الأمريكية والغربية المضادة، كأن تلجأ، على سبيل المثال، الدول الأوروبية إلى تفعيل “آلية الزناد”؛ ما يعني العودة التلقائية إلى العقوبات الأممية من خلال مجلس الأمن الدولي، وبموجب هذه الآلية سيكون البرنامج النووي الإيراني تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛ ومن ثم فرض حصار اقتصادي شامل على إيران، مع العلم أنه لا يمكن استخدام حق النقض (الفيتو) ضدها.

2- مسار التصعيد: يعتمد في مجمله على احتمال تصعيد الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل تجاه إيران، كأن تُقدم إسرائيل على خرق اتفاق وقف إطلاق النار “الهش”، بحجة خروج البرنامج النووي الإيراني من مظلة المراقبة الدولية عقب تعليق طهران تعاونها مع الوكالة الدولية، أو أن تفرض واشنطن عقوبات منفردة على طهران، إلى جانب إمكانية انتهاء مهلة تفعيل “آلية الزناد” في شهر أكتوبر المقبل، قبل موافقة إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات؛ وهو ما يُعرض إيران ليس فقط لعقوبات أممية شاملة، وإنماً ربما أيضاً لعميلة عسكرية، وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولن يكون اتخاذ القرار في هذا الشأن سهلاً؛ لكنه مطروح كخيار للتعامل مع تشدد إيراني يمكنه أن يغلق أفق المفاوضات.

ويتزامن ذلك مع ضغط إسرائيلي مستمر لعودة العقوبات الأممية على إيران فور إعلانها عن تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ حيث أكد وزير الخارجية، جدعون ساعر، عبر حسابه على موقع “إكس”، أنه يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بحزم الآن ويستخدم جميع الوسائل المتاحة له لوقف الطموحات النووية الإيرانية. وسبق أن هددت إيران حال اتخاذ أي من هذه الإجراءات، بالخروج نهائياً من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

ختاماً، ترى بعض التقديرات في الغرب، ومنها ما أشار إليه براناي فادي، المدير الأول لشؤون مراقبة الأسلحة ونزع السلاح ومنع الانتشار في مجلس الأمن القومي الأمريكي سابقاً، في مقال له بموقع (The Bulletin)، يوم 3 يوليو الجاري؛ بأن الدبلوماسية هي المسار الوحيد المتاح أمام النظام الإيراني الذي يسعى حالياً للحفاظ على بقائه وحفظ ماء وجهه في الداخل الإيراني ومحيطه الإقليمي، مع تأكيد أن هامش المناورة لديه محدود؛ نظراً لضيق الوقت أمامه بسبب اقتراب انتهاء مهلة “آلية الزناد”، وأنه على طهران التوصل إلى اتفاق شامل يضمن تفاهماً بشأن الملف النووي الإيراني، ويؤدي إلى تخفيف العقوبات على الاقتصاد الإيراني أو تجميدها، ووقف إطلاق نار طويل الأمد مع إسرائيل.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى